فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكما أن للإرادة تعلقًا صلاحيًّا أزليًّا وتعلّقًا تنجيزيًّا حادِثًا حين تتوجه الإرادة إلى إيجادٍ بواسطة القدرة.
كذلك نجد لكلام الله تعلّقًا صلاحيًّا أزليًّا وتعلّقًا تنجيزيًّا حينَ اقتضاء علم الله تَوجِيهَ أمره أو نهيه أو نحوهما إلى بعض عباده.
فالكلام الذي ينطق به الرّسول وينسبه إلى الله تعالى هو حادث وهو أثَر التعلق التنجيزي الحادث، والكلام الذي نعتقد أن الله أراده وأراد من النّاس العمل به هو الصفة الأزلية القديمة ولها التعلق الصلاحي القديم.
وفي (الرسالة الخاقانية) للعلامة عبد الحكيم السلكوتي نقل عن بعض العلماء بأن لكلام الله تعلقًا تنجيزيًّا حادثًا، وهذا من التحقيق بمكان.
والتحقيق: أن ذلك الكلام الأزلي يتنوع إلى أنواع المدلولات من أمر ونهي وخبر ووعد ووعيد ونحو ذلك.
وخلاصة معنى الآية أن الله قد يخلق في نفس جبريل أو غيره من الملائكة علمًا بمراد الله على كيفية لا نعلمها، وعلمًا بأن الله سخره إبلاغ مراده إلى النبي، والمَلكُ يبلغ إلى النبي ما أُمر بتبليغه امتثالًا للأمر التسخيري، بألفاظ معينة ألقاها الله في نفس الملك مثل ألفاظ القرآن، أو بألفاظ من صنعة الملك كالتي حكى الله عن زكرياء بقوله: {فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلِّي في المحراب أنَّ الله يبشرك بيحيى} [آل عمران: 39].
أو يخلقُ في سمع النبي كلامًا يعلم علم اليقين أنه غير صادر إليه من متكلم، فيوقن أنه من عند الله بدلالة المعجزة أول مرة وبدلالة تعوّده بعد ذلك.
وهذا مثل الكلام الذي كلم الله به موسى ألا ترى إلى قوله تعالى: {أنْ يا موسى إنني أنا الله ربّ العالمين وأنْ ألْقِ عصاك} [القصص: 30، 31] الآية، فقرن خطابه الخارق للعادة بالمعجزة الخارقة للعادة ليُوقن موسى أن ذلك كلام من عند الله.
أو يخلقُ في نفس النبي علمًا قطعيًا بأن الله أراد منه كذا كما يخلق في نفس المَلك في الحالة المذكورة أولًا.
فعلى هذه الكيفيات يأتي الوحي للأنبياء ويَختص القرآن بمزية أن الله تعالى يخلق كلامًا يَعِيه المَلك ويؤمر بإبلاغه بنصه دون تغير إلى محمد صلى الله عليه وسلم والقول في موقع جملة {إنه علي حكيم} كالقول في جملة {إنه عليم قدير} [الشورى: 50] السابقة، وإنما أوثر هنا صفة العلي الحكيم لمناسبتهما للغرض لأن العلوّ في صفة العليّ علوّ عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تَحْظَ من جانب القُدس بالتصفية فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة فاقتضى علوّه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض لأن ذلك كما يقول الحكماء: استفادة القابل من المبدإ تتوقف عن المناسبة بينهما.
وأمّا وصف الحكيم فلأن معناه المُتقِن للصنع العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلاّ لحكمة إصلاحهم ونظام عالَمهم، وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقّي خطابه، ووعيِه دون اختلال فيه ولا خروج عن طاقة المتلقِّين.
وانظر ما تقدم عند قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربّه} في سورة الأعراف (143)، وعند قوله: {فأجِرْه حتىّ يسمعَ كلام الله} في سورة براءة (6). اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في كلم:
الكلام: القول أَو ما كان مكتفِيًا بنفسه.
والكَلِمة: اللفظة، والجمع: كَلِم، والكِلْمة بالكسر لغه فيها، والجمع: كِلَم ككِسَر.
وكلَّمهُ تكليمًا وكِلاَّمًا.
وتكلّم تكلُّمًا وتِكِلاَّما: تحدَّث.
وتكالمًا: تحدَّثا.
والكلمة: القصيدة.
وكلمة الله عيسى عليه السَّلام؛ لأَنه كان يُنتفع به وبكلامه، أَو لأَنه كان بكلمة (كُنْ) من غير أَب، أَو لاهتداء الناس به.
والكلمة الباقية: كلمة التوحيد.
ورجل تِكْلامة، وتِكِلاَّمة بالتشديد، وتِكْلام، وكَلْمانىّ كسَلْمانىّ، وكَلَمانىّ بالتحريك، وكِلِّمَانىّ بكسرتين والتشديد- ولاَ نظير له-: جيّد الكلام فصيحه.
وقيل: رجل كِلِّمَانىّ، أي كثير الكلام، والمرأَة كِلِّمَانيَّة.
والكَلْم: الجَرْح، والجمع: كُلُوم وكِلاَم.
وكَلَمه يكلِمه، وكلَّمه: جرحه فهو مكلوم، وكليم، ومكلَّم، وهى كَلْمَى.
وبهم كَلْم وكِلاَم وكُلُوم.
وأَصل الكَلْم: التأْثير المدرَك بإِحدى الحاسّتين السمع والبصر.
والكَلاَم يقع على الأَلفاظ المنظومة، وعلى المعانى التى تحتها مجموعة؛ وعند النحاة يقع على الجزء منه، اسما كان أَو فعلا أَو أَداةً.
وعند كثير من المتكلِّمين لا يقع إِلاَّ على الجملة المركَّبة المفيدة، وهو أَخصّ من القول؛ فإِن القول عندهم يقع على المفردات، والكلمة تقع على كل واحد من الأَنواع الثلاثة، وقد قيل بخلاف ذلك.
وقوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}، قيل هو قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}.
وقال الحسن: هو قوله: أَلم تخلقنى بيدك! أَلم تُسكنِّى جنَّتك؛ أَلم تُسجِد لي ملائكتك! أَلم تسبق رحْمتُك غضبك! أَرأَيت إِن تبتُ كنت مُعيدِى إِلى الجنَّة؛ قال: نعم.
وقيل: هو الأَمانة المعروضة على السماواة والأَرض.
وقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قيل: هي الأشياء التى امتحن الله بها إِبراهيم عليه السَّلام: من ذبح ابنه، والخِتان وغيرهما.
وقوله:
لزكريَّا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}، قيل: هي كلمة التوحيد، وقيل: كتاب الله، وقيل: يعنى به عيسى عليه السلام.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ}، فالكلمة هنا القضية، وكل قضية تُسَمَّى كلمة، سواء كان ذلك مقالا أَو فَعالا، ووصفها بالصدق لأَنه يقال: قول صِدْق، وفعل صدق.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} إِشارة إِلى نحو قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، ونبّه بذلك على أَنه لا نسخ للشريعة بعد اليوم.
وقيل: إِشارة إِلى ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوّل ما خَلَق الله القَلَم، فقال له: اِجْرِ بما هو كائن إِلى يوم القيامة».
وقيل: الكلمة هي القرآن.
وعبرّ بلفظ الماضى تنبيهًا أَن ذلك في حكم الكائن.
وقيل: عنى بالكلمات الآيات والمعجزات، فنبَّه أَنَّ ما أرسل من الآيات تامّ وفيه بلاغ.
وقوله: {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} ردّ لقولهم: {ائْتِ بقرآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}.
وقيل: أَرادَ بكلمات ربّك أَحكامه، وبين أَنه شَرَعَ لعباده مافيه بلاغ.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} هذه الكلمة قيل هو قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ}.
وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} إِشارة إِلى ماسبق من حكمه الذي اقتضته كلمته، وأَنه لا تبديل لكلماته.
وقوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي بحججه الَّتى جعلها لكم عليهم سلطانًا مبينًا، أي حُجَّة قويَّة.
وقوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} إِشارة إِلى ما قال: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا}، وذلك أَن الله تعالى كان قد قال: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا}، ثم قال هؤلاء المنافقون: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} وقصدهم تبديل كلام الله، فنبَّه على أَن هؤلاء لا يفعلون، وكيف يفعلون وقد علم الله منهم أَنهم لا يفعلون، وقد سبق بذلك حكمه.
ومكالمة الله تعالى العبد على ضربين: أَحدهما في الدُّنيا، والثانى في الآخرة؛ فما في الدُّنيا فعلى ما نبَّه عليه بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ} الآية.
وما في الآخرة ثواب للمؤمنين وكرامة لهم تخفى عليهم كيفيَّته.
ونبَّه أَن ذلك يحرم على الكافرين بقوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وأَمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أَحد إِلاَّ سيكلِّمه ربَّه ليس بينه وبينه ترجمان» فلعلَّ المراد به في بعض المواقف دون بعض، أَو المراد: ما من أَحد من المؤمنين.
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} جمع كلمة، قيل: إِنهم كانوا يبدِّلُون الأَلفاظ ويغيرونها، وقيل: إِنَّ التحريف كان مِن جهة المعنى، وهو حمله على غير ما قُصد به واقتضاه، وهذا أَمثل القولين.
وقوله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ}، أي لولا يكلِّمنا مواجهة، وذلك نحو قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السماء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلك فَقالواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}.
وأَعوذ بكلمات الله التامات، قيل: هي القرآن.
وقوله: سبحان الله عدَدَ كلماته، أي كلامه، وهو صفته وصفاته لا تنحصر بالعدد، فذكر العدد هنا مجاز بمعنى المبالغة في الكثرة.
وقيل: يحتمل عدد الأَذكار، أَو عدد الأُجُور على ذلك، ونصب (عددا) على المصدر.
وقوله: اسْتَحْلَلْتُم فروجهنَّ بكلمات الله، قيل: هي قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقيل: هو إِباحة الله الزواج وإِذنه فيه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
قوله تعالى: {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء}.
فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته أن يتسخط ما وهبه وبدأ سبحانه بذكر الإناث فقيل جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن وقيل وهو أحسن إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان وعندي وجه آخر وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص التأخير بالتعريف فإن التعريف تنويه كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ثم لما ذكر الصنفين معا قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير والله أعلم بما أراد من ذلك والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله تعالى في قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون النحل} (58- 59) وقال: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم الزخرف} 17 ومن هاهنا عبر بعض المعبرين لرجل قال له رأيت كأن وجهي أسود فقال ألك امرأة حامل قال نعم قال تلد لك أنثى. اهـ.

.تفسير الآيات (52- 53):

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الوحي روحًا مدبرًّا للروح كما أن الروح مدبر للبدن، صرح به فقال: {وكذلك} أي ومثل ما أخبرناك بالكيفيات التي نوحيها إلى عبادنا {أوحينا إليك} صارفًا القول إلى مظهر العظمة تعظيمًا لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام، فالتفت في الروع مذكورًا غير منكور، والسماع من دون الحجاب أصلًا منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضًا ذكر فيها في قوله: «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» والوحي بواسطة الملك كثيرًا جدًّا، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكرًا له تعظيمًا لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم أي من خالطه صار قلبه حيًا ومن عري عنه كان قلبه ميتًا.
وزاد عظمه بقوله: {من أمرنا} أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكبارًا له كل مادح، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الإفتراء لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء، ودل على ذلك بقوله، نافيًا مبينًا حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي: {ما كنت} أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساويًا لهم في كونك لا تعلم شيئًا ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى {تدري} وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية {ما الكتاب} أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها {ولا الإيمان} أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقرأ بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه.
ولما كان المعنى: ولكن نحن أدريناك بذلك كله، عبر عنه إعلامًا بأن الخلق كانوا في ظلام لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله: {ولكن جعلناه} أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة {نورًا نهدي} على عظمتنا {به من نشاء} خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا {من عبادنا} بخلق الهداية في قلبه، قال ابن برجان: فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور، وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به، وقال الأصبهاني في سورة النور: هو الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار مثلًا على الأرض والجدار وغيرهما، يقال: استنارت الأرض، وقال حجة الإسلام الغزالي- رضي الله عنه ـ: ومن المعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذلك يتوقف على وجود اليعن الباصرة وهي المدركة وبها الإدراك، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش: إن نور عينيه ضعيف، وفي الأعمى أنه فقد نور البصر، إذا ثبت هذا فنقول: للإنسان بصر وبصيرة، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي نورًا، ونور العقل أقوى وأشد من نور العين، لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا إدراكها ولا آلاتها، والقوة العاقلة تدرك نفسها، وإدراكها وآلتها فنور العقل اكمل من نور البصر، والقوة العاقلة تدرك الكليات والقوة الباصرة لا تدركها، وإدراك الكليات أشرف لأنه لا يتغير بخلاف الجزئيات، وإدراك العقل منتج وإدراك الجزئي غير منتج، والقوة الباصرة لا تدرك إلا السطح الظاهر من الجسم واللون القائم بذلك السطح بشرط الضوء فإذا أدركت الإنسان لم تدرك منه إلا السطح الظاهر من جسمه واللون القائم به والقوة العاقلة تدرك ظاهر الأشياء وباطنها فان الباطن والظاهر بالنسبة إليها على السواء فكانت القوة العاقلة نورًا بالنسبة إلى الظاهر والباطن، والقوة الباصرة ظلمة بالنسبة إلى الباطن، ومدرك القوة العاقلة هو الله وصفاته وأفعاله، ومدرك القوة هو الألوان والأشكال فيكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله إلى شرف الألوان والأشكال، والقوة الباصرة كالخادم والقوة العاقلة كالأمير، والأمير أشرف من الخادم، والقوة الباصرة قد تغلط والقوة العاقلة لا تغلط، فثبت أن الإدراك العقلي أكمل وأقوى وأشرف من الإدراك البصري، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نورًا، والإدراك العقلي قسمان: أحدهما واجب الحصول عند سلامة القوى والآلات وهي التعقلات الفطرية، والثاني ما يكون مكتسبًا، وهي التعقلات النظرية، ولا يكون من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالمًا ألبتة، فهذه الأنوار إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب، والفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ فلا بد من هاد ومرشد، ولا مرشد فوق كلام الله وأنبيائه، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس كما يسمى نور الشمس نورًا فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين، وبهذا يظهر معنى قوله تعالى: